الديمقراطية العربية- تحديات داخلية وخارجية تعيق المسار

المؤلف: محمد العودات08.11.2025
الديمقراطية العربية- تحديات داخلية وخارجية تعيق المسار

في الواقع الملموس، لم تحقق الديمقراطية في عالمنا العربي النجاح المنشود، ولم تثمر كما هو متوقع، بل ظلت الأجواء السياسية العربية تعيش حالة من التباين والتنافر، عاجزة عن تحقيق الازدهار. يعزو البعض هذه النتيجة إلى أن الديمقراطية نظام دخيل، غربي المنشأ، لا يتلاءم مع طبيعة البيئة العربية، مستندين إلى التاريخ العربي الذي يزعمون أنه يفضل الحاكم المستبد العادل. ولكن، هل هذا الزعم صحيح؟

قد تبدو فكرة "الدكتاتور العادل" جذابة في ظاهرها، حيث تقوم على تصور وجود حاكم فرد يتمتع بالحزم والرؤية الصائبة، يمتلك الحكمة والقوة والضمير الحي، بالإضافة إلى حس إنساني رفيع يجعله قادراً على تحقيق العدل والإنصاف، وتجديد الفكر والبرامج والمشاريع. بيد أن هذه الشخصية المثالية قد تكون مجرد خيال طوباوي يصعب تحقيقه على أرض الواقع.

في المقابل، السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، والدكتاتورية هي الخطوة الأولى في طريق الظلم والفساد. فالحكم الفردي المطلق يوفر البيئة الخصبة التي ينمو فيها الظلم والفساد وسوء الإدارة والفوضى، مما يؤدي في النهاية إلى الانهيار. التاريخ يشهد على ذلك.

نخبٌ أيديولوجية

عند البحث والتدقيق في التجارب العربية الحديثة الساعية إلى بناء حياة ديمقراطية حقيقية، نجد أن أسباب التعثر والفشل والانتكاس تكمن في عدة عوامل:

غياب الفهم العميق للديمقراطية لدى الشعوب، التي تعتبر الركيزة الأساسية في أي عملية ديمقراطية. فالشعب هو أساس الحكم الديمقراطي، حيث يمارس السلطة بنفسه.

عدم استيعاب مفهوم الديمقراطية وآليات التداول السلمي للسلطة أدى إلى عزوف الشعوب العربية عن الديمقراطية والنضال من أجلها. بل وصل الأمر إلى أن بعض الشعوب باتت تناهض المؤسسات والسلطات التي انتخبتها، بتحريض من القوى المستبدة.

ضعف الوعي بمفهوم الديمقراطية لدى النخب العربية التي تقود المجتمعات. فالنخب التي نشأت في ظل الاستبداد غالباً ما تكون ذات توجهات أيديولوجية ضيقة، وغير قادرة على تقديم برامج عملية. فهي تنقسم بين نخب علمانية ليبرالية تركز على تعظيم الحريات الشخصية، وعلى رأسها الحريات الجنسية، ومحاربة البيئات المحافظة، ونخب إسلامية تهمل الحريات الشخصية وتسعى إلى فرض نمط محدد من السلوك الاجتماعي على حياة الناس.

لطالما نظرت هذه النخب إلى الديمقراطية على أنها غزو ثقافي غربي يجب مقاومته، متمسكة بفكرة التضاد بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. بينما تنظر نخب عربية يسارية إلى الديمقراطية بازدراء، مؤمنة بأن القوة العسكرية هي الوسيلة الأضمن والأسرع لتحقيق الحكم والاستقرار.

تختزل هذه النخب الديمقراطية في مجرد صناديق الاقتراع ونتائجها، وترفض الاعتراف بأن الديمقراطية، بالإضافة إلى كونها حكم الأغلبية، تتضمن أيضاً آليات مثل الانتخابات المبكرة في حالات الانسداد السياسي، والاستقالة المبكرة في حالات الفشل.

ينظر أغلب أفراد النخب العربية إلى بعضهم البعض كخصوم يدخلون في صراعات صفرية، حيث يكون الهدف الأساسي هو إفشال الآخر، مما وصل بهم إلى حد الاستعانة بالاستبداد ضد بعضهم البعض.

أغرت هذه الحالة المتردية للنخب، وعدم وضوح مفهوم الديمقراطية وممارساتها، القوى الاستبدادية العربية، ومنحتها فرصة ذهبية لإحكام قبضتها على السلطة بعد ثورات الربيع العربي.

فقر سياسي

قابلية النخب السياسية للاستغلال: لم تخض الكثير من النخب العربية نضالاً سياسياً حقيقياً من أجل الديمقراطية والتضحية في سبيلها. فنجد العديد من منتسبي الحركات الأيديولوجية يتاجرون بالفكر الديمقراطي من أجل جذب انتباه الحاكم، وما إن يغريهم المستبد بالمشاركة في الحكم وتقاسم المكاسب حتى ينقلبوا على الديمقراطية ويسعوا إلى تبرير الاستبداد بين الناس بمسميات مختلفة.

تخلف الأنظمة الانتخابية في الدول العربية: بعد ثورات الربيع العربي، تبين أن النخب السياسية والقانونية تفتقر إلى رؤية واضحة لما تريده. فهي تعرف ما لا تريده، لكنها تجهل ما الذي تصبو إليه.

هذه الحالة هي نتيجة طبيعية لحالة الفقر السياسي المدقع الذي خلفته الأنظمة المستبدة وأصاب جميع شرائح المجتمع. فقد عمدت تلك الأنظمة إلى تجريف أي وعي ديمقراطي أو إمكانية لقيام حياة ديمقراطية في المستقبل، حتى بعد رحيلها، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير.

كان هناك نقص حاد في إدراك وفهم أهم قواعد الحكم في الأنظمة الجمهورية. فالفلسفة التي تقوم عليها الأنظمة الجمهورية الديمقراطية هي أن الرئيس هو من يباشر مهام الحكم بنفسه، وحتى يتمكن من ذلك، يجب أن تنسجم جميع مؤسسات الدولة العميقة معه في البرنامج والرؤية.

ركزت الأنظمة الانتخابية التي جاءت بها قوى الثورة على كيفية وصول رئيس منتخب إلى السلطة، لكنها لم تدرك أهمية تمكين الرئيس المنتخب من الحكم الحقيقي. فلا يمكن للرئيس أن يحكم ما لم تكن الدولة العميقة تحت توجيهاته وقراراته.

أما في أنظمة الحكم البرلماني العربي، فقد رأينا كيف تم تفريغ فلسفة الحكم البرلماني من جوهرها، تلك الفلسفة التي تقوم على فكرة أن الأغلبية هي التي تحكم وتشرع وتحمي وتدعم خطة من يحكم، وأن الأقلية هي التي تراقب وتعارض. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال نظام انتخابي يفرز أغلبية وأقلية داخل البرلمان.

اختطاف الديمقراطية

غاب هذا الأمر عن الأنظمة البرلمانية العربية التي أنتجت في معظمها برلمانات "معلقة" بالمعنى السياسي، حيث لا يملك أي حزب أغلبية برلمانية، مما دفع القوى السياسية إلى تشكيل حكومات ائتلافية وحكومات محاصصة، وكانت النتائج أسوأ صورة ممكنة للحكم البرلماني.

كل ذلك كان نتيجة خلل في التشريعات والنظم الانتخابية، وغياب العتبة الانتخابية أو نسبة الحسم المرتفعة في الأنظمة الانتخابية. فظهرت برلمانات أقليات سياسية مبعثرة غير قادرة على الحكم.

تعرضت التجارب الديمقراطية العربية للاختطاف من قبل الفئات التي تفسد العمل الديمقراطي. فالديمقراطية لا يمكن أن تحقق نتائج حقيقية إلا إذا كانت قائمة على التنافس الشريف بين من يقدم الأفضل في جمع المال العام وإدارته وإعادة توزيعه، وهذا لا يتحقق إلا من خلال خطاب برنامجي بعيداً عن أربع فئات تفسد الديمقراطية والفلسفة التي قامت من أجلها، وهي: "من يملك القوة الغاشمة، ومن يملك النفوذ الديني، ومن يملك قوة القبيلة ورابطة الدم، ومن يقدم الخطاب الشعبوي".

يفسد الديمقراطية كل من يستطيع استخدام القوة الغاشمة في حسم الصراع والتنافس مع خصومه في السباق الديمقراطي. فكل من يملك القدرة على تسخير القوة والسلاح لحسم صراعه مع خصومه، وحسم التنافس لصالحه وصالح من يدور في فلكه وتحالفه، سواء كان من خلفية عسكرية أو مدنية، سيفسد الديمقراطية. فعندما تحضر القوة والسلاح، تغيب قوة البرنامج والطرح، وتفرغ الديمقراطية من قيمتها ومعناها.

معايير واضحة

يمكن تعريف رجل الدين بأنه كل من يملك نفوذاً دينياً في نفوس الجمهور. فمن يملك هذا النفوذ، تكون منافسته غير متكافئة ومحسومة لصالحه، وتغيب المنافسة على صلاحية البرنامج وقدرة المرشح على خدمة الناس. وقد رأينا كيف سقطت الديمقراطية العراقية وفُرغَت من مضمونها.

سيطرة القبائل: القبائل هي مكونات اجتماعية تهدف إلى التعاون والتكافل الاجتماعي. ولكن استخدام رابطة الدم والقبيلة في المعارك الانتخابية العربية يتناقض مع فكرة الديمقراطية ومبادئها. فاستعمال القبيلة لإبراز قوتها ونفوذها وبسط سيطرتها، وتحويلها من كيانات اجتماعية إلى كيانات سياسية موسمية في المعارك الانتخابية، أفقد العملية الديمقراطية معناها وأفسد نتائجها.

كما أن تنامي النزعة الشعبوية السياسية وتفشيها بين الشعوب العربية، ومحاولة تصوير الديمقراطية على أنها حل سحري لمشاكل الناس وتلبية مطالبهم بسرعة، كان له أثر مدمر على العملية الديمقراطية برمتها. فقد رأينا كيف استطاعت الشعبوية السياسية في أوج قوتها أن تدفع بعض شعوب الثورات العربية إلى أن تناهض الديمقراطية، وتؤيد حكم الفرد، وتصفق لتفكيك مؤسسات الدولة لصالح الحكم الفردي.

تمكنت الديمقراطية الغربية من وضع معايير واضحة لإبعاد استخدام القوة ورجال الدين عن اختطاف العملية الديمقراطية، ولم تواجه مشكلة القبيلة نظراً إلى التركيبة السكانية الغربية، لكنها لم تنجح حتى الآن في تحييد المال وحماية نفسها من رجال الأعمال بشكل قاطع، وإن كانت هناك محاولات تشريعية لتخفيف الأثر، لكنها لم تقضِ على دور المال في إفساد العملية السياسية. فوُضِعت التشريعات التي تفرض سقفا للدعاية الانتخابية، مع إعلان مصادر التمويل، ومنع التمويل الخارجي للحملات الانتخابية، وتجريم شراء الذمم والمال السياسي الأسود... إلخ.

لا تزال الشعبوية في الغرب تؤثر بين الحين والآخر في العملية الديمقراطية وفي نتائج الانتخابات بنسب متفاوتة، ولكنها بالتأكيد لم تصل إلى معاداة الديمقراطية وتقويضها كما حدث في الدول العربية، باستثناء محاولة ترامب التي ووجهت بحكم المؤسسات الراسخة وملاحقة القضاء.

لبناء حالة ديمقراطية عربية حقيقية ومؤثرة، نحتاج إلى تحويل الديمقراطية إلى ثقافة وممارسة يومية من خلال نشر معارفها وعلومها في جميع المراحل التعليمية، وتأهيل النخب السياسية العربية لتكون الديمقراطية خيارها الاستراتيجي في التعبير عن أفكارها ومشاريعها.

في الوقت نفسه، نحتاج إلى وضع التشريعات والمبادئ السياسية الصارمة التي تحمي العملية الديمقراطية من العناصر المفسدة الأربعة: "استخدام القوة الغاشمة، والنفوذ الديني، والقبلية، والشعبوية السياسية الرخيصة".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة